وقع على أسماعنا بالأمس “تنظيم القاعدة” ونسمع اليوم عن “داعش” في أرض الشام، و”المرابطون” في المغرب العربي، و”بوكو حرام” في الغرب الإفريقي، وغيرها مما يصنف محليا ودوليا بحركات إرهابية. ولا زال السؤال قائماً حول حقيقة هذه المسميات: أهي حركات جهادية أنتجها فكرٌ إسلامي معين بناء على رؤية فقهية ما؛ ليصبح تدينا؟! أم إن شيئاً من ذلك لم يكن، وإنما تلعب فئةٌ مّا وراء الكواليس بشعبها وبشعوب الإسلام عبر رسم هذه المسرحيات وإخراج هذا الفليم لغاية في نفس يعقوب، أم إن الأمر مزيج الاحتمالين؟
واقع الضغط الاجتماعي و”التديني”
قبل طرح جواب للسؤال السابق؛ يجدر بالتذكير أنه لا دخان بدون نار، وأنه لا معنى للنص بعيدا عن مكان ميلاده وتداعيات ظهوره. يعيش كثيرٌ من البلاد الإسلامية حالات لا يحسدون عليها، وكل حالة من هذه الحالات صالحة للانجار متى سنحت الفرصة نتيجة الضغط والكبت الكبيرين. فالظاهرة الاجتماعية العامة للمجتمعات الإسلامية تتميز بالفقر والجوع اقتصاديا، وقلة نسبة التعليم ثقافيا، وأسرياً نجد إشكالات في فهم الأسرة وطريقة إدارتها نتيجة قلة ثقافة رب الأسرة وعدم قدرته على مواكبة العصر في تربية أفراد أسرته، وربط علاقته معهم، أما سياسيا فآمال وتطلعات في ميلاد السياسي العمري والأيوبي ليعيد للأمة وحدتها وعزتها وإباءها، ولعله لا بد لهذه الأفعال القائمة من ردات أفعال للتغيير إلى الأحسن، إن لم يكن واقعيا فلا على الأقل بالأمل. ذاك عن السمات المدنية العامة، أما على المستوى التديني، فلعل عدد غير قليل من المتدينين يعتقدون بفساد الواقع، وأن عددا من رؤساء الدول الإسلامية عملاء أو أصنام، منفذون للرؤى الغربية واستراتيجياتها، تتسم مجتماعتهم بما ليس من ثقافتهم وعاداتهم، يشجعون على الفساد والدعة، ولا يدعون إلى التدين وإقامة دين الله، وتطبيق الولاء والبراء، ولا يقربون الدين وأهله، بل قد يهاربون كل مظهر من مظاهر التدين فكريا وإعلاميا وسياسيا واجتماعيا: فكريا لا يقرّبوب ولا يتقرب إليهم إلا من يمايع ويجمال على حساب كلمة الحق والدين، ولا يروجون إلا لكتبهم وفكرهم، وإعلاميا فإن الفساد الإعلامي طمّ وعمّ ولا انفكاك عنها والجميع ساكت، وسياسيا فلا الاستقلالية الفكرية ولا إرادة الشعب المتدين محترم، أما اجتماعيا فلا النقاب ولا الحجاب الشرعي محمود، وحظر كبير ومتابعة تامة لمن يواظب على الصلوات في الجماعة على أوقاتها، ناهيك عن تربية اللحية والتزام الدروس والآداب الإسلامية الظاهرة.
التدين بالجهاد في الفكر الإسلامي
نستحضر حقيقة أن “صناعة الفتوى” لا تنفك عن تأثيرات البيئة والرؤى الاجتماعية والفلسفة الفكرية التي ينتمي إليها الفقيه أو العالم الذي يصدر الفتوى. وهذا سبب من أسباب تباين الفتوى –بالإضافة إلى عوامل أخرى بالطبع-، وإن لشخصية الفقيه دورا في صياغة نمط التدين، تبقى القاعدة أنه لو تمت صناعة الفتوى انطلاقا من الوحيين ووفق الأصول المعتمدة فهي تدين مقبول يأخذ حكم الدين وإلا فتدين مرفوض. وتدين الجهاد نماذج من آلاف النماذج، لذا نجد فيه الآتي: 1- الأصل الحرب والعداوة: لا يرى بعض المشايخ إلا: “قاتلوا أئمة الكفر” “حرض المؤمنين على القتال” “اقتلوهم حيث ثقفتموهم” “قاتلوا المشركين كافة” “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” ” إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون” “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحيان عند ربهم يرزقون.” ومثل: ” من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة نفاق” ويعضد ذلك بـ: “ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.” 2- الأصل السلم: وفي مقابل ذلك تجد بعض المشايخ يذهبون أقل من ذلك، ويقولون: “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها” وقوله: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون” ويكثر من قاعدة التعددية الدينية: “لكم دينكم ولي دين” “لست عليهم بمصيطر” “إن عليك إلا البلاغ” وأن باب التدين كبير وواسع، وإن إطعام الطعام وإفشاء السلام والصيام والقيام وقضاء حوائج الأمة وبيان الإسلام ووحدة المسلمين والعدل فيما بينهم من أكبر أنواع الجهاد الذي يجب السعي فيه. ثم إن المدقق يجد أن لكل طائفة وجوهَ ردٍ على دليل الآخر بالتخصيص أو التعميم أو التأويل، ولعل ذلك راجع إلى الفهم بعد حسن النية بالطائفتين. ومن ثم يرمي كل صاحبه بمصطلح التشدد والتنطع أو الإرهاب، في حين يرميه الآخر بالانهزامية، والعلمنة أو التساهل ومجاملة الغرب وممايعة الدين..
اللعبة السياسية
من الممكن أن يستغل صناع القرار والساسة هذا الوضع القائم وفق المفهومين القائمين لتمرير حوائجهم والسعي نحو أهدافهم ومخططاتهم. فلو أثبت لهم باحث ما أنه لضمان السيطرة السياسية لا بد من بسط النفوذ على المنطقة الفلانية وإخضاع الحكومة العلانية لقرار كذا وكذا؛ قد يتطلب تنفيذ ذلك استراتيجيات دخول المنطقة، أو الفوز بقبول الرأي العام لجهات ما، أو تغيير الموقف العالمي نحو قضية ما، أو على الأقل إيجاد مبرر كلامي لإسكات الناس والظهور بثوب أبيض. ومن هنا قد يخلقون مشكلة غير قائمة أساسا ويصنعون جماعات وهمية لا حقيقة لها، يزودونها بكل المتطلبات. وقد يستغلون الفئة التي تتدين بكل إخلاص بضرورة الجهاد؛ في سبيل تحقيق مأربهم، أو يصطادون غيرَهم بهم فيتركونهم يسيحون في الأرض. أخيرا لعلنا بين موقفين بين “مشكلية الإسلام” وبيان أن الإسلام هو المشكلة، أو بين “إسلامية المشكلة” وذلك بأن نصبغ المعضلة الاجتماعية القائمة ثوبَ الإسلام، في حين أن الإسلام البريء هو الوحيد الضحية في كل هذه السيناريوهات، وإن تفجيرات باريس وعملية بماكو الأسبوع الماضي من هذا أو ذاك!
المصدر:
مجمع الأفارقة
صفحة الآراء حول القارة السمراء