قال ابن خلدون: سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها.
والكتب الثلاثة التي عدها ابن خلدون قد رجعت في كثير من فصولها إلى البيان والتبيين !
وعبر هذا التصنيف يتعامل ابن خلدون مع الأدب باعتباره علما تابعا، أو علما مساعدا له غاية واضحة هي مؤازرة ودعم فعل معرفة أسرار العربية لتفسير النص الديني وامتلاك معناه، وهو مفهوم ساد لدى كثير من العلماء المشتغلين بعلوم الدين والشريعة الذين رأوا أن الآداب إنما تدخل ضمن عمليات وإجراءات استكناه العربية لتفسير القرآن من جهة المفردات والعبارات وشرح الغريب الوارد في كلام الرسول، واعتبروا أن الاستقصاء في كل أنواع العلوم المرتبطة باللغة والشواهد الشعرية أجل وأعظم المعارف الدنيوية، وهي توطئة لكل العلوم الشرعية. ويقرر ابن خلدون أن معرفة هذه العلوم ضرورية على أهل الشريعة “إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة وهي بلغة العرب، فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة” ويفيد هذا أن الغرض الأسمى من الأدب هو حصول ” القدرة” أو “القوة” على فهم كتاب الله وكلام الرسول ومعرفة بناء الألفاظ والدلالات الواردة في القرآن والحديث لاستنباط الأحكام.
من هنا يعرض ابن خلدون لمسألة تعريف الأدب وحده، فيقول” هذا العلم لا موضوع له، ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم ويندرج ضمنه فن الشعر وفن السجع ومسائل من اللغة والنحو وأيام العرب وأخبارهم وأنسابهم، وهذا تحديد يلتقي مع جملة التعريفات القديمة التي لا تقوم على تعريف جامع مانع للأدب بقدر ما تقدم إحصاء للعلوم والمعارف والفنون المنضوية أو الملتئمة تحت عنوان الأدب، يضاف إليها أو يعدل منها حسب الظروف والأحوال، فالسائد أن علوم الأدب ثمانية: النحو واللغة والتصريف والعروض وصنعة الشعر وأخبار العرب وأنسابهم، وألحق بهم صاحب “نزهة الألباء في طبقات الأدباء ابن الأنباري، علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو ويضيف إليها ابن خلدون الغناء، حيث يقول في سياق استكماله حد الأدب” وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر ، إذ الغناء إنما هو تلحينه.ويستطرد ابن خلدون من جانب آخر فيحد الأدب بهذه العبارات:” الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف، يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط، إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب ويغدو بهذا المعنى فضاء جامعا لمجموعة من المعارف والفنون والعلوم التي لها صلة باللغة العربية وثقافتها، ويكاد دوره لا يتعدى دور “حفظ” أو نقل هذه المعارف بتقنيات مختلفة، ليكون الأديب بهذا الاعتبار مكلفا بنقلها فحسب ، وليس باستنباطها، وهذا الدور يبدو منسجما مع الدور المفترض للفقيه والعالم والأصولي الذين كانت وظيفتهم نقل المعارف الضرورية عن العالم والوجود التي تكفل للناس المعاش حسب التصور الإسلامي للعلم.